فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

سورة الحاقة:
الدرس الأول: 1- 3 الحاقة والهول في إفتتاح السورة:
{الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة}..
القيامة ومشاهدها وأحداثها تشغل معظم هذه السورة. ومن ثم تبدأ السورة باسمها، وتسمى به، وهو اسم مختار بجرسه ومعناه كما أسلفنا. فالحاقة هي التي تحق فتقع. أو تحق فتنزل بحكمها على الناس. أو تحق فيكون فيها الحق.. وكلها معان تقريرية جازمة تناسب اتجاه السورة وموضوعها. ثم هي بجرسها كما بينا من قبل تلقي إيقاعا معينا يساوق هذا المعنى الكامن فيها، ويشارك في إطلاق الجو المراد بها؛ ويمهد لما حق على المكذبين بها. في الدنيا وفي الآخرة جميعا.
والجو كله في السورة جو جد وجزم، كما أنه جو هول وروع. وهو يوقع في الحس إلى جانب ما أسلفنا في التقديم، شعورا بالقدرة الإلهية الكبرى من جهة، وبضآلة الكائن الإنساني تجاه هذه القدرة من جهة أخرى؛ وأخذها له أخذا شديدا في الدنيا والآخرة، عندما يحيد أو يتلفت عن هذا النهج الذي يريده الله للبشرية، ممثلا فيما يجيء به الرسل من الحق والعقيدة والشريعة؛ فهو لا يجيء ليهمل، ولا ليبدل، إنما يجيء ليطاع ويحترم، ويقابل بالتحرج والتقوى. وإلا فهناك الأخذ والقصم، وهناك الهول والروع.
والألفاظ في السورة بجرسها وبمعانيها وباجتماعها في التركيب، وبدلالة التركيب كله.. تشترك في إطلاق هذا الجو وتصويره. فهو يبدأ فيلقيها كلمة مفردة، لا خبر لها في ظاهر اللفظ: {الحاقة}.. ثم يتبعها باستفهام حافل بالاستهوال والاستعظام لماهية هذا الحدث العظيم: {ما الحاقة}.. ثم يزيد هذا الاستهوال والاستعظام بالتجهيل، وإخراج المسألة عن حدود العلم والإدراك: {وما أدراك ما الحاقة}.. ثم يسكت فلا يجيب على هذا السؤال. ويدعك واقفا أمام هذا الأمر المستهول المستعظم، الذي لا تدريه، ولا يتأتى لك أن تدريه! لأنه أعظم من أن يحيط به العلم والإدراك!
الدرس الثاني: 4- 12 لقطات من مصارع الكفار السابقين:
ويبدأ الحديث عن المكذبين به، وما نالهم من الهول، وما أخذوا به من القصم، فذلك الأمر جد لا يحتمل التكذيب، ولا يذهب ناجيا من يصر فيه على التكذيب:
{كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية}.
وهذا اسم جديد للحاقة. إنها فوق إنها تحق.. فهي تقرع.. والقرع ضرب الشيء الصلب والنقر عليه بشيء مثله. والقارعة تقرع القلوب بالهول والرعب، وتقرع الكون بالدمار والحطم. وها هي ذي بجرسها تقعقع وتقرقع، وتقرع وتفزع.. وقد كذبت بها ثمود وعاد. فلننظر كيف كانت عاقبة التكذيب.. {فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية}..
من الآية 6 إلى الآية 12
{وأمّا عادٌ فأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صرْصرٍ عاتِيةٍ (6) سخّرها عليْهِمْ سبْع ليالٍ وثمانِية أيّامٍ حُسُوما فترى الْقوْم فِيها صرْعى كأنّهُمْ أعْجازُ نخْلٍ خاوِيةٍ (7) فهلْ ترى لهُم مِّن باقِيةٍ (8) وجاء فِرْعوْنُ ومن قبْلهُ والْمُؤْتفِكاتُ بِالْخاطِئةِ (9) فعصوْا رسُول ربِّهِمْ فأخذهُمْ أخْذة رّابِية (10) إِنّا لمّا طغى الْماء حملْناكُمْ فِي الْجارِيةِ (11) لِنجْعلها لكُمْ تذْكِرة وتعِيها أُذُنٌ واعِيةٌ (12)}
وثمود- كما جاء في مواضع أخرى- كانت تسكن الحجر في شمالي الحجاز بين الحجاز والشام. وكان أخذهم بالصيحة كما سماها في غير موضع. أما هنا فهو يذكر وصف الصيحة دون لفظها.. {بالطاغية}.. لأن هذا الوصف يفيض بالهول المناسب لجو السورة. ولأن إيقاع اللفظ يتفق مع إيقاع الفاصلة في هذا المقطع منها. ويكتفي بهذه الآية الواحدة تطوي ثمود طيا، وتغمرهم غمرا، وتعصف بهم عصفا، وتطغى عليهم فلا تبقي لهم ظلا!
وأما عاد فيفصل في أمر نكبتها ويطيل، فقد استمرت وقعتها سبع ليال وثمانية أيام حسوما. على حين كانت وقعة ثمود خاطفة.. صيحة واحدة. طاغية.. {وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية}. والريح الصرصر: الشديدة الباردة. واللفظ ذاته فيه صرصرة الريح. وزاد شدتها بوصفها {عاتية}.. لتناسب عتو عاد وجبروتها المحكي في القرآن، وقد كانوا يسكنون الأحقاف في جنوب الجزيرة بين اليمن وحضرموت. وكانوا أشداء بطاشين جبارين. هذه الريح الصرصر العاتية: {سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما}.. والحسوم القاطعة المستمرة في القطع. والتعبير يرسم مشهد العاصفة المزمجرة المدمرة المستمرة هذه الفترة الطويلة المحددة بالدقة: {سبع ليال وثمانية أيام}. ثم يعرض المشهد بعدها شاخصا: {فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية}.. فترى.. فالمنظر معروض تراه، والتعبير يلح به على الحس حتى يتملاه! {صرعى}.. مصروعين مجدلين متناثرين {كأنهم أعجاز نخل}بأصولها وجذوعها {خاوية} فارغة تآكلت أجوافها فارتمت ساقطة على الأرض هامدة! إنه مشهد حاضر شاخص. مشهد ساكن كئيب بعد العاصفة المزمجرة المدمرة.. {فهل ترى لهم من باقية}.. لا! فليس لهم من باقية!!!
ذلك شأن عاد وثمود.. وهو شأن غيرهما من المكذبين. وفي آيتين اثنتين يجمل وقائع شتى:
{وجاء فرعون ومن قبله والمؤتكفات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية..}
وفرعون كان في مصر- وهو فرعون موسى- ومن قبله لا يذكر عنهم تفصيل. والمؤتفكات قرى لوط المدمرة التي اتبعت الإفك أو التي انقلبت، فاللفظ يعني هذا وهذا. ويجمل السياق فعال هؤلاء جميعا، فيقول عنهم انهم جاءوا {بالخاطئة}أي بالفعلة الخاطئة.. من الخطيئة.. {فعصوا رسول ربهم}.. وهم عصوا رسلا متعددين؛ ولكن حقيقتهم واحدة، ورسالتهم في صميمها واحدة. فهم إذن رسول واحد، يمثل حقيقة واحدة- وذلك من بدائع الإشارات القرآنية الموحية- وفي إجمال يذكر مصيرهم في تعبير يلقي الهول والحسم حسب جو السورة: {فأخذهم أخذة رابية}.. والرابية العالية الغامرة الطامرة. لتناسب {الطاغية}التي أخذت ثمود {والعاتية} التي أخذت عادا، وتناسب جو الهول والرعب في السياق بدون تفصيل ولا تطويل!
ثم يرسم مشهد الطوفان والسفينة الجارية، مشيرا بهذا المشهد إلى مصرع قوم نوح حين كذبوا. وممتنا على البشر بنجاة أصولهم التي انبثقوا منها، ثم لم يشكروا ولم يعتبروا بتلك الآية الكبرى:
{إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية..}
ومشهد طغيان الماء ومشهد الجارية على الماء الطاغي، كلاهما يتناسق مع مشاهد السورة وظلالها. وجرس الجارية وواعية يتمشى كذلك مع إيقاع القافية. وهذه اللمسة {لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية} تلمس القلوب الخامدة والآذان البليدة، التي تكذب بعد كل ما سبق من النذر وكل ما سبق من المصائر، وكل ما سبق من الآيات، وكل ما سبق من العظات، وكل ما سبق من آلاء الله ونعمه على أصول هؤلاء الغافلين!
من الاية 13 الى الاية 16
{فإِذا نُفِخ فِي الصُّورِ نفْخةٌ واحِدةٌ (13) وحُمِلتِ الْأرْضُ والْجِبالُ فدُكّتا دكّة واحِدة (14) فيوْمئِذٍ وقعتِ الْواقِعةُ (15) وانشقّتِ السّماء فهِي يوْمئِذٍ واهِيةٌ (16)}
الدرس الثالث: 13- 18 صورة لهول الصعق والحشر والموقف:
وكل هذه المشاهد المروعة الهائلة القاصمة الحاسمة تبدو ضئيلة صغيرة إلى جانب الهول الأكبر. هول الحاقة والقارعة التي يكذب بها المكذبون، وقد شهدوا مصارع المكذبين..
إن الهول في هذه المصارع- على ضخامتها- محدود إذا قيس إلى هول القارعة المطلق من الحدود المدخر لذلك اليوم المشهود. وهنا بعد هذا التمهيد يكمل العرض، ويكشف عن الهول كأنه التكملة المدخرة للمشاهد الأولى:
{فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}..
ونحن نؤمن أن هناك نفخة في الصور وهو البوق تحدث بعدها هذه الأحداث. ولا نزيد في تفصيلها شيئا. لأنها غيب. ليس عندنا من دلائله إلا مثل هذه النصوص المجملة؛ وليس لنا مصدر آخر لتفصيل هذا الإجمال. والتفصيل لا يزيد في حكمة النص شيئا، والجري وراءه عبث لا طائل تحته، إلا اتباع الظن المنهي عنه أصلا.
فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة، فتبع هذه النفخة تلك الحركة الهائلة: {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة}.. ومشهد حمل الأرض والجبال ونفضها ودكها دكة واحدة تسوي عاليها بسافلها.. مشهد مروع حقا. هذه الأرض التي يجوس الإنسان خلالها آمنا مطمئنا، وهي تحته مستقرة مطمئنة. وهذه الجبال الراسية الوطيدة الراسخة التي تهول الإنسان بروعتها واستقرارها.. هذه مع هذه تحمل فتدك كالكرة في يد الوليد.. إنه مشهد يشعر معه الإنسان بضآلته وضآلة عالمه إلى جانب هذه القدرة القادرة، في ذلك اليوم العظيم..
فإذا وقع هذا. إذا نفخ في الصور نفخة واحدة، وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة.. فهو حينئذ الأمر الذي تتحدث عنه السورة: {فيومئذ وقعت الواقعة}.. والواقعة اسم من أسمائها كالحاقة والقارعة. فهي الواقعة لأنها لابد واقعة. كأن طبيعتها وحقيقتها الدائمة أن تكون واقعة! وهو اسم ذو إيحاء معين وهو إيحاء مقصود في صدد الارتياب فيها والتكذيب!
ولا يقتصر الهول على حمل الأرض والجبال ودكها دكة واحدة، فالسماء في هذا اليوم الهائل ليست بناجية:
{وانشقت السماء فهي يومئذ واهية}..
ونحن لا ندري على وجه التحقيق ما السماء المقصودة بهذا اللفظ في القرآن. ولكن هذا النص والنصوص الأخرى التي تشير إلى الأحداث الكونية في ذلك اليوم العظيم كلها تشير إلى انفراط عقد هذا الكون المنظور، واختلال روابطه وضوابطه التي تمسك به في هذا النظام البديع الدقيق، وتناثر أجزائه بعد انفلاتها من قيد الناموس..
ولعله من المصادفات الغريبة أن يتنبأ الآن علماء الفلك بشيء يشبه هذا تكون فيه نهاية العالم، استنباطا من ملاحظتهم العلمية البحتة، وحسب القليل الذي عرفوه من طبيعة هذا الكون وقصته كما افترضوها..
فأما نحن فنكاد نشهد هذه المشاهد المذهلة، من خلال النصوص القرآنية الجازمة؛ وهي نصوص مجملة توحي بشيء عام؛ ونحن نقف عند إيحاء هذه النصوص، فهي عندنا الخبر الوحيد المستيقن عن هذا الشأن، لأنها صادرة من صاحب الشأن، الذي خلق، والذي يعلم ما خلق علم اليقين. نكاد نشهد الأرض وهي تحمل بجبالها بكتلتها هذه، الضخمة بالقياس إلينا، الصغيرة كالهباءة بالقياس إلى الكون، فتدك دكة واحدة؛ ونكاد نشهد السماء وهي مشققة واهية والكواكب وهي متناثرة منكدرة.. كل ذلك من خلال النصوص القرآنية الحية، المشخصة المشاهد بكامل قوتها كأنها حاضرة..
من الاية 17 الى الاية 18
{والْملكُ على أرْجائِها ويحْمِلُ عرْش ربِّك فوْقهُمْ يوْمئِذٍ ثمانِيةٌ (17) يوْمئِذٍ تُعْرضُون لا تخْفى مِنكُمْ خافِيةٌ (18)}
ثم يغمر الجلال المشهد ويغشيه، وتسكن الضجة التي تملأ الحس من النفخة والدكة والتشقق والانتثار. يسكن هذا كله ويظهر في المشهد عرش الواحد القهار:
{والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}..
والملائكة على أرجاء هذه السماء المنشقة وأطرافها، والعرش فوقهم يحمله ثمانية.. ثمانية أملاك أو ثمانية صفوف منها، أو ثمانية طبقات من طبقاتهم، أو ثمانية مما يعلم الله. لا ندري نحن من هم ولا ما هم. كما لا ندري نحن ما العرش؟ ولا كيف يحمل؟ ونخلص من كل هذه الغيبيات التي لا علم لنا بها، ولم يكلفنا الله من علمها إلا ما قص علينا. نخلص من مفردات هذه الغيبيات إلى الظل الجليل الذي تخلعه على الموقف. وهو المطلوب منا أن تستشعره ضمائرنا. وهو المقصود من ذكر هذه الأحداث ليشعر القلب البشري بالجلال والرهبة والخشوع، في ذلك اليوم العظيم، وفي ذلك الموقف الجليل:
{يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية}..
فالكل مكشوف. مكشوف الجسد، مكشوف النفس، مكشوف الضمير، مكشوف العمل، مكشوف المصير. وتسقط جميع الأستار التي كانت تحجب الأسرار، وتتعرى النفوس تعري الأجساد، وتبرز الغيوب بروز الشهود.. ويتجرد الإنسان من حيطته ومن مكره ومن تدبيره ومن شعوره، ويفتضح منه ما كان حريصا على أن يستره حتى عن نفسه! وما أقسى الفضيحة على الملأ. وما أخزاها على عيون الجموع! أما عين الله فكل خافية مكشوفة لها في كل آن. ولكن لعل الإنسان لا يشعر بهذا حق الشعور، وهو مخدوع بستور الأرض. فها هو ذا يشعر به كاملا وهو مجرد في يوم القيامة. وكل شيء بارز في الكون كله. الأرض مدكوكة مسواة لا تحجب شيئا وراء نتوء ولا بروز. والسماء متشققة واهية لا تحجب وراءها شيئا، والأجسام معراة لا يسترها شيء، والنفوس كذلك مكشوفة ليس من دونها ستر وليس فيها سر!
ألا إنه لأمر عصيب. أعصب من دك الأرض والجبال، وأشد من تشقق السماء! وقوف الإنسان عريان الجسد، عريان النفس، عريان المشاعر، عريان التاريخ، عريان العمل ما ظهر منه وما استتر. أمام تلك الحشود الهائلة من خلق الله، من الإنس والجن والملائكة، وتحت جلال الله وعرشه المرفوع فوق الجميع..
وأن طبيعة الإنسان لمعقدة شديدة التعقيد؛ ففي نفسه منحنيات شتى ودروب، تتخفى فيها نفسه وتتدسس بمشاعرها ونزواتها وهفواتها وخواطرها وأسرارها وخصوصياتها. وإن الإنسان ليصنع أشد مما تصنعه القوقعة الرخوة الهلامية حين تتعرض لوخزة إبرة، فتنطوي سريعا، وتنكمش داخل القوقعة، وتغلق على نفسها تماما. إن الإنسان ليصنع أشد من هذا حين يحس أن عينا تدسست عليه فكشفت منه شيئا مما يخفيه، وأن لمحة أصابت منه دربا خفيا أو منحنى سريا! ويشعر بقدر عنيف من الألم الواخز حين يطلع عليه أحد في خلوة من خلواته الشعورية..
فكيف بهذا المخلوق وهو عريان. عريان حقا. عريان الجسد والقلب والشعور والنية والضمير. عريان من كل ساتر. عريان... كيف به وهو كذلك تحت عرش الجبار، وأمام الحشد الزاخر بلا ستار؟!
ألا إنه لأمر، أمر من كل أمر!!!
وبعدئذ يعرض مشهد الناجين والمعذبين، كأنه حاضر تراه العيون..
من الاية 19 الى الاية 24
{فأمّا منْ أُوتِي كِتابهُ بِيمِينِهِ فيقول هاؤُمُ اقْرؤُوا كِتابِيهْ (19) إِنِّي ظننتُ أنِّي مُلاقٍ حِسابِيهْ (20) فهُو فِي عِيشةٍ رّاضِيةٍ (21) فِي جنّةٍ عالِيةٍ (22) قُطُوفُها دانِيةٌ (23) كُلُوا واشْربُوا هنِيئا بِما أسْلفْتُمْ فِي الْأيّامِ الْخالِيةِ (24)}
الدرس الرابع: 19- 37 من أوتي كتابه بيمينه ومن أوتي كتابه بشماله:
{فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه.. فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية}.
وأخذ الكتاب باليمين وبالشمال ومن وراء الظهر قد يكون حقيقة مادية، وقد يكون تمثيلا لغويا جاريا على اصطلاحات اللغة العربية من تعبيرهم عن وجهة الخير باليمين ووجهة الشر بالشمال أو من وراء الظهر.. وسواء كان هذا أو ذاك فالمدلول واحد، وهو لا يستدعي جدلا يضيع فيه جلال الموقف!
والمشهد المعروض هو مشهد الناجي في ذلك اليوم العصيب، وهو ينطلق في فرحة غامرة، بين الجموع الحاشدة، تملأ الفرحة جوانحه، وتغلبه على لسانه، فيهتف: هاؤم اقرؤوا كتابيه.. ثم يذكر في بهجة أنه لم يكن يصدق أنه ناج، بل كان يتوقع أن يناقش الحساب.. «ومن نوقش الحساب عذب» كما جاء في الأثر: عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذب» فقلت: أليس يقول الله تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا}فقال: «إنما ذلك العرض وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك».
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا بشر بن مطر الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عاصم، عن الأحول، عن أبي عثمان، قال: المؤمن يعطى كتابه بيمينه في ستر من الله، فيقرأ سيئاته، فكلما قرأ سيئة تغير لونه، حتى يمر بحسناته فيقرؤها فيرجع إليه لونه، ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات. قال: فعند ذلك يقول: {هاؤم اقرؤوا كتابيه}.
وروى عن عبد الله بن حنظلة- غسيل الملائكة- قال: إن الله يوقف عبده يوم القيامة فيبدي- أي يظهر- سيئاته في ظهر صحيفته، فيقول له: أنت عملت هذا؟ فيقول: نعم أي رب! فيقول له: إني لم أفضحك به، وإني قد غفرت لك. فيقول عند ذلك: هاؤم اقرؤوا كتابيه. إني ظننت أني ملاق حسابيه.
وفي الصحيح من حديث ابن عمر حين سئل عن النجوى، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدني الله العبد يوم القيامة، فيقرره بذنوبه كلها، حتى إذا رأى أنه قد هلك قال الله تعالى: إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه. وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين»..
ثم يعلن على رؤوس الأشهاد ما أعد لهذا الناجي من النعيم، الذي تبدو فيه هنا ألوان من النعيم الحسي، تناسب حال المخاطبين إذ ذاك، وهم حديثو عهد بجاهلية، ولم يسر من آمن منهم شوطا طويلا في الإيمان، ينطبع به حسه، ويعرف به من النعيم ما هو أرق وأعلى من كل متاع:
{فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية}..
وهذا اللون من النعيم، مع هذا اللون من التكريم في الالتفات إلى أهله بالخطاب وقوله: {كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية}.. فوق أنه اللون الذي تبلغ إليه مدارك المخاطبين بالقرآن في أول العهد بالصلة بالله، قبل أن تسمو المشاعر فترى في القرب من الله ما هو أعجب من كل متاع.. فوق هذا فإنه يلبي حاجات نفوس كثيرة على مدى الزمان. والنعيم ألوان غير هذا وألوان..
من الاية 25 الى الاية 32
{وأمّا منْ أُوتِي كِتابهُ بِشِمالِهِ فيقول يا ليْتنِي لمْ أُوت كِتابِيهْ (25) ولمْ أدْرِ ما حِسابِيهْ (26) يا ليْتها كانتِ الْقاضِية (27) ما أغْنى عنِّي مالِيهْ (28) هلك عنِّي سُلْطانِيهْ (29) خُذُوهُ فغُلُّوهُ (30) ثُمّ الْجحِيم صلُّوهُ (31) ثُمّ فِي سِلْسِلةٍ ذرْعُها سبْعُون ذِراعا فاسْلُكُوهُ (32)}
{وأما من أوتي كتابه بشماله} وعرف أنه مؤاخذ بسيئاته، وأن إلى العذاب مصيره، فيقف في هذا المعرض الحافل الحاشد، وقفة المتحسر الكسير الكئيب.. {فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه}..
وهي وقفة طويلة، وحسرة مديدة، ونغمة يائسة، ولهجة بائسة. والسياق يطيل عرض هذه الوقفة حتى ليخيل إلى السامع أنها لاتنتهي إلى نهاية، وأن هذا التفجع والتحسر سيمضي بلا غاية! وذلك من عجائب العرض في إطالة بعض المواقف، وتقصير بعضها، وفق الإيحاء النفسي الذي يريد أن يتركه في النفوس. وهنا يراد طبع موقف الحسرة وإيحاء الفجيعة من وراء هذا المشهد الحسير. ومن ثم يطول ويطول، في تنغيم وتفصيل. ويتمنى ذلك البائس أنه لم يأت هذا الموقف، ولم يؤت كتابه، ولم يدر ما حسابه؛ كما يتمنى أن لو كانت هذه القارعة هي القاضية، التي تنهي وجوده أصلا فلا يعود بعدها شيئا.. ثم يتحسر أن لا شيء نافعه مما كان يعتز به أو يجمعه: {ما أغنى عني ماليه}.. {هلك عني سلطانيه}.. فلا المال أغنى أو نفع. ولا السلطان بقي أو دفع.. والرنة الحزينة الحسيرة المديدة في طرف الفاصلة الساكنة وفي ياء العلة قبلها بعد المد بالألف، في تحزن وتحسر.. هي جزء من ظلال الموقف الموحية بالحسرة والأسى إيحاء عميقا بليغا..
ولا يقطع هذه الرنة الحزينة المديدة إلا الأمر العلوي الجازم، بجلاله وهوله وروعته:
{خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه}..
يا للهول الهائل! ويا للرعب القاتل! ويا للجلال الماثل!
{خذوه}..
كلمة تصدر من العلي الأعلى. فيتحرك الوجود كله على هذا المسكين الصغير الهزيل. ويبتدره المكلفون بالأمر من كل جانب، كما يقول ابن أبي حاتم بإسناده عن المنهال بن عمرو: «إذا قال الله تعالى: خذوه ابتدره سبعون ألف ملك. إن الملك منهم ليقول هكذا فيلقي سبعين ألفا في النار».. كلهم يبتدر هذه الحشرة الصغيرة المكروبة المذهولة!
{فغلوه}..
فأي السبعين ألفا بلغه جعل الغل في عنقه..!
{ثم الجحيم صلوه}..
ونكاد نسمع كيف تشويه النار وتصليه..
{ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه}..
وذراع واحدة من سلاسل النار تكفيه! ولكن إيحاء التطويل والتهويل ينضح من وراء لفظ السبعين وصورتها.
من الاية 33 الى الاية 37
{إِنّهُ كان لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ الْعظِيمِ (33) ولا يحُضُّ على طعامِ الْمِسْكِينِ (34) فليْس لهُ الْيوْم هاهُنا حمِيمٌ (35) ولا طعامٌ إِلّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يأْكُلُهُ إِلّا الْخاطِؤُون (37)}
ولعل هذا الإيحاء هو المقصود!.
فإذا انتهى الأمر، نشرت أسبابه على الحشود:
{إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين}..
إنه قد خلا قلبه من الإيمان بالله، والرحمة بالعباد. فلم يعد هذا القلب يصلح إلا لهذه النار وذلك العذاب.
خلا قلبه من الإيمان بالله فهو موات، وهو خرب، وهو بور. وهو خلو من النور. وهو مسخ من الكائنات لا يساوي الحيوان بل لا يساوي الجماد. فكل شيء مؤمن، يسبح بحمد ربه، موصول بمصدر وجوده. أما هو فمقطوع من الله. مقطوع من الوجود المؤمن بالله.
وخلا قلبه من الرحمة بالعباد. والمسكين هو أحوج العباد إلى الرحمة ولكن هذا لم يستشعر قلبه ما يدعو إلى الاحتفال بأمر المسكين. ولم يحض على طعامه وهي خطوة وراء إطعامه. توحي بأن هناك واجبا اجتماعيا يتحاض عليه المؤمنون. وهو وثيق الصلة بالإيمان. يليه في النص ويليه في الميزان!
{فليس له اليوم هاهنا حميم ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون..}
وهي تكملة الإعلان العلوي عن مصير ذلك الشقي. فلقد كان لا يؤمن بالله العظيم، وكان لا يحض على طعام المسكين. فهو هنا مقطوع {فليس له اليوم هاهنا حميم}.. وهو ممنوع: {ولا طعام إلا من غسلين}.. والغسلين هو غسالة أهل جهنم من قيح وصديد! وهو يناسب قلبه النكد الخاوي من الرحمة بالعبيد! طعام {لا يأكله إلا الخاطئون}.. المذنبون المتصفون بالخطيئة.. وهو منهم في الصميم!
وبعد، فذلك هو الذي يجعله الله مستحقا للأخذ والغل والتصلية والسلسلة التي ذرعها سبعون ذراعا في الجحيم. وهو أشد دركات جهنم عذابا.. فكيف بمن يمنع طعام المسكين ومن يجيع الأطفال والنساء والشيوخ، ومن يبطش بطشة الجبارين بمن يمد إليهم يده باللقمة والكساء في برد الشتاء؟ أين ترى يذهب هؤلاء، وهم يوجدون في الأرض بين الحين والحين؟ وما الذي أعده الله لهم وقد أعد لمن لا يحض على طعام المسكين، ذلك العذاب في الجحيم؟
وينتهي هذا المشهد العنيف المثير. الذي لعله جاء في هذه الصورة المفزعة لأن البيئة كانت جبارة قاسية عنيدة تحتاج إلى عرض هذه المشاهد العنيفة كي تؤثر فيها وتهزها وتستحييها. ومثل هذه البيئة يتكرر في الجاهليات التي تمر بها البشرية، كما أنه يوجد في الوقت الواحد مع أرق البيئات وأشدها تأثرا واستجابة. لأن رقعة الأرض واسعة. وتوزيع المستويات والنفسيات فيها مختلف. والقرآن يخاطب كل مستوى وكل نفس بما يؤثر فيها، وبما تستجيب له حين يدعوها. والأرض تحتوي اليوم في بعض نواحيها قلوبا أقسى، وطبائع أجسى، وجبلات لا يؤثر فيها إلا كلمات من نار وشواظ كهذه الكلمات. ومشاهد وصور مثيرة كهذه المشاهد والصور المثيرة..
الدرس الخامس: 38- 43 القسم على حقيقة مصدر القرآن ورد شبهات الكفار عليه:
وفي ظل هذه المشاهد العنيفة المثيرة، المتوالية منذ أول السورة، مشاهد الأخذ في الدنيا والآخرة، ومشاهد التدمير الكونية الشاملة، ومشاهد النفوس المكشوفة العارية، ومشاهد الفرحة الطائرة والحسرة الغامرة..
في ظل هذه المشاهد العميقة الأثر في المشاعر يجيء التقرير الحاسم الجازم عن حقيقة هذا القول الذي جاءهم به الرسول الكريم، فتلقوه بالشك والسخرية والتكذيب.
من الآية 38 إلى الآية 40:
{فلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُون (38) وما لا تُبْصِرُون (39) إِنّهُ لقول رسُولٍ كرِيمٍ (40)}
إن الأمر لا يحتاج إلى قسم وهو واضح هذا الوضوح، ثابت هذا الثبوت، واقع هذا الوقوع. لا يحتاج إلى قسم أنه حق، صادر عن الحق، وليس شعر شاعر، ولا كهانة كاهن، ولا افتراء مفتر! لا. فما هو بحاجة إلى توكيد بيمين:
{فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون}..
بهذه الفخامة وبهذه الضخامة، وبهذا التهويل بالغيب المكنون، إلى جانب الحاضر المشهود.. والوجود أضخم بكثير مما يرى البشر. بل مما يدركون. وما يبصر البشر من الكون وما يدركون إلا أطرافا قليلة محصورة، تلبي حاجتهم إلى عمارة هذه الأرض والخلافة فيها- كما شاء الله لهم- والأرض كلها ليست سوى هباءة لا تكاد ترى أو تحس في ذلك الكون الكبير. والبشر لا يملكون أن يتجاوزوا ما هو مأذون لهم برؤيته وبإدراكه من هذا الملك العريض، ومن شؤونه وأسراره ونواميسه التي أودعها إياه خالق الوجود..
{فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون}..
ومثل هذه الإشارة تفتح القلب وتنبه الوعي إلى أن هناك وراء مد البصر ووراء حدود الإدراك جوانب وعوالم وأسرارا أخرى لا يبصرها ولا يدركها. وتوسع بذلك آفاق التصور الإنساني للكون والحقيقة. فلا يعيش الإنسان سجين ما تراه عيناه، ولا أسير ما يدركه وعيه المحدود. فالكون أرحب والحقيقة أكبر من ذلك الجهاز الإنساني المزود بقدر محدود من الطاقة يناسب وظيفته في هذا الكون. ووظيفته في الحياة الدنيا هي الخلافة في هذه الأرض.. ولكنه يملك أن يكبر ويرتفع إلى آماد وآفاق أكبر وأرفع حين يستيقن أن عينه ومداركه محدودة، وأن هناك وراء ما تدركه عينه ووعيه عوالم وحقائق أكبر- بما لا يقاس- مما وصل إليه.. عندئذ يتسامى على ذاته ويرتفع على نفسه، ويتصل بينابيع المعرفة الكلية التي تفيض على قلبه بالعلم والنور والاتصال المباشر بما وراء الستور!
إن الذين يحصرون أنفسهم في حدود ما ترى العين، ويدرك الوعي، بأدواته الميسرة له.. مساكين! سجناء حسهم وإدراكهم المحدود. محصورون في عالم ضيق على سعته، صغير حين يقاس إلى ذلك الملك الكبير..
وفي فترات مختلفة من تاريخ هذه البشرية كان كثيرون أو قليلون يسجنون أنفسهم بأيديهم في سجن الحس المحدود، والحاضر المشهود؛ ويغلقون على أنفسهم نوافذ المعرفة والنور، والاتصال بالحق الكبير، عن طريق الإيمان والشعور. ويحاولون أن يغلقوا هذه النوافذ على الناس بعد ما أغلقوها على أنفسهم بأيديهم.. تارة باسم الجاهلية. وتارة باسم العلمانية! وهذه كتلك سجن كبير. وبؤس مرير. وانقطاع عن ينابيع المعرفة والنور!
والعلم يتخلص في هذا القرن الأخير من تلك القضبان الحديدية التي صاغها- بحمق وغرور- حول نفسه في القرنين الماضيين.. يتخلص من تلك القضبان، ويتصل بالنور- عن طريق تجاربه ذاتها- بعد ما أفاق من سكرة الغرور والاندفاع من أسر الكنيسة الطاغية في أوربا؛ وعرف حدوده، وجرب أن أدواته المحدودة تقوده إلى غير المحدود في هذا الكون وفي حقيقته المكنونة. وعاد (العلم يدعو إلى الإيمان) في تواضع تبشرأوائله بالفرج! أي نعم بالفرج. فما يسجن الإنسان نفسه وراء قضبان المادة الموهومة إلا وقد قدر عليه الضيق!
ولقد رأينا عالما مثل ألكسيس كاريل الطبيب المتخصص في بحوث الخلية ونقل الدم والمشتغل بالطب علما وجراحة وإشرافا على معاهد العلاج والنظريات العلاجية، وصاحب جائزة نوبل سنة 1912 ومدير معهد الدراسات الإنسانية بفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية يرى:
(أن الكون على رحبه مملوء بعقول فعالة غير عقولنا، وأن العقل الإنساني هاد قاصد بين دروب التيه التي حوله إذا كان معوله كله على هدايته. وإن الصلاة من وسائل الاتصال بالعقول التي حولنا، وبالعقل الأبدي المسيطر على مقادير الأكوان قاطبة، فيما هو ظاهر لنا وما هو محتجب عنا في طي الخفاء).
(وأن الشعور بالقداسة مع غيره من قوى النشاط الروحاني له شأن خاص في الحياة، لأنه يقيمنا على اتصال بآفاق الخفاء الهائل من عالم الروح)..
ورأينا طبيبا آخر مثل (دي نوي) الذي اشتغل بمباحث التشريح والعلم الطبيعي، وعمل مع الأستاذ كوري وقرينته، واستدعاه معهد روكفلر لمواصلة بحث مع أعضائه في خصائص وعلاج الجراح.. يقول: (كثير من الأذكياء وذوي النية الحسنة يتخيلون أنهم لا يستطيعون الإيمان بالله لأنهم لا يستطيعون أن يدركوه. على أن الإنسان الأمين الذي تنطوي نفسه على الشوق العلمي لا يلزمه أن يتصور الله إلا كما يلزم العالم الطبيعي أن يتصور الكهرب. فإن التصور في كلتا الحالتين ناقص وباطل. وليس الكهرب قابلا للتصور في كيانه المادي! وإنه مع هذا لأثبت في آثاره من قطعة الخشب)...
ورأينا عالما طبيعيا مثل سير أرثر طومسون المؤلف الاسكتلندي الشهير يقول: (إننا في زمن شفت فيه الأرض الصلبة، وفقد فيه الأثير كيانه المادي، فهو أقل الأزمنة صلاحا للغلو في التأويلات المادية).
ويقول في مجموعة (العلم والدين):
(ليس للعقل المتدين أن يأسف اليوم لأن العالم الطبيعي لا يخلص من الطبيعة إلى رب الطبيعة. إذ ليست هذه وجهته. وقد تكون النتيجة أكبر جدا من المقدمة إذا خرج العلماء بالاستنتاج من الطبيعة إلى ما فوق الطبيعة. إلا أننا خلقاء أن نغتبط لأن العلماء الطبيعيين قد يسروا للنزعة الدينية أن تتنفس في جو العلم، حيث لم يكن ذلك يسيرا في أيام آبائنا وأجدادنا... فإذا لم يكن عمل الطبيعيين أن يبحثوا في الله- كما زعم مستر لانجدون دافيز خطأ في كتابه البديع عن الإنسان وعالمه- فنحن نقرر عن روية أن أعظم خدمة قام بها العلم، أنه قاد الإنسان إلى فكرة عن الله أنبل وأسمى، ولا نجاوز المعنى الحرفي حين نقول: إن العلم أنشأ للإنسان سماء جديدة وأرضا جديدة، وحفزه من ثم إلى غاية جهده العقلي، فإذا به، في كثير من الأحيان، لا يجد السلام إلا حيث يتخطى مدى الفهم، وذلك في اليقين والاطمئنان إلى الله).
ورأينا عالما مثل (ا. كريسي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك وعضو المجلس التنفيذي لمجلسالبحوث القومي بالولايات المتحدة سابقا يقول في كتابه: (الإنسان لا يقوم وحده):
(إننا نقترب فعلا من عالم المجهول الشاسع، إذ ندرك أن المادة كلها قد أصبحت من الوجهة العلمية مجرد مظهر لوحدة عالمية هي في جوهرها كهربائية. ولكن مما لا ريب فيه أن المصادفة لم يكن لها دخل في تكوين الكون، لأن هذا العالم العظيم خاضع للقانون).
(إن ارتقاء الإنساني الحيواني إلى درجة كائن مفكر شاعر بوجوده، هو خطوة أعظم من أن تتم عن طريق التطور المادي، ودون قصد ابتداعي).
(وإذا قبلت واقعية القصد، فإن الإنسان بوصفه هذا قد يكون جهازا. ولكن ما الذي يدير هذا الجهاز؟ لأنه بدون أن يدار لا فائدة منه. والعلم لا يعلل من يتولى إدارته، وكذلك لا يزعم أنه مادي.)
(لقد بلغنا من التقدم درجة تكفي لأن نوقن بأن الله قد منح الإنسان قبسا من نوره...)
وهكذا بدأ العلم يخرج من سجن المادية وجدرانها بوسائله الذاتية، فيتصل بالجو الطليق الذي يشير القرآن إليه بمثل تلك الآية الكريمة: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون}. ونظائره المتعددة. وإن يكن بيننا نحن من أقزام التفكير والشعور من لا يزال يغلق بكلتا يديه نوافذ النور على نفسه وعلى من حوله باسم العلم! في تخلف عقلي عن العلم، وفي تخلف روحي عن الدين، وفي تخلف شعوري عن الحرية الطليقة في معرفة الحقيقة! وفي تخلف إنساني عما يليق بالكائن الإنساني الكريم!
فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون.. {إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين}..
ولقد كان مما تقول به المشركون على القرآن وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم: إنه شاعر. وإنه كاهن. متأثرين في هذا بشبهة سطحية، منشؤها أن هذا القول فائق في طبيعته على كلام البشر. وأن الشاعر في وهمهم له رئي من الجن يأتيه بالقول الفائق، وأن الكاهن كذلك متصل بالجن. فهم الذين يمدونه بعلم ما وراء الواقع! وهي شبهة تسقط عند أقل تدبر لطبيعة القرآن والرسالة، وطبيعة الشعر أو الكهانة.. فالشعر قد يكون موسيقي الإيقاع، رائع الأخيلة، جميل الصور والظلال؛ ولكنه لا يختلط أبدا ولا يشتبه بهذا القرآن إن هنالك فارقا أساسيا فاصلا بينهما. إن هذا القرآن يقرر منهجا متكاملا للحياة يقوم على حق ثابت، ونظرة موحدة، ويصدر عن تصور للوجود الإلهي ثابت، وللكون والحياة كذلك. والشعر انفعالات متوالية وعواطف جياشة، قلما تثبت على نظرة واحدة للحياة في حالات الرضى والغضب، والانطلاق والانكماش، والحب والكره، والتأثرات المتغيرة على كل حال!
هذا إلى أن التصور الثابت الذي جاء به القرآن قد أنشأه القرآن من الأساس، في كلياته وجزئياته، مع تعين مصدره الإلهي. فكل ما في هذا التصور يوحي بأنه ليس من عمل البشر، فليس من طبيعة البشر أن ينشئوا تصورا كونيا كاملا كهذا التصور.. لم يسبق لهم هذا ولم يلحق.. وهذا كل ما أبدعته قرائح البشر من تصورات للكون وللقوة المنشئة له المدبرة لنظامه.. هذا هو معروضا مسجلا في الفلسفة وفي الشعر وفي غيرها من المذاهب الفكرية؛ فإذا قرن إلى التصور القرآني وضح أن هذا التصور صادر من جهة غير تلك الجهة! وأنه متفرد بطابع معين يميزه من كل تصورات البشر.
كذلك الأمر في الكهانة وما يصدر عنها. فلم يعرف التاريخ من قبل أو بعد كاهنا أنشأ منهجا متكاملا ثابتا كالمنهج الذي جاء به القرآن. وكل ما نقل عن الكهنة أسجاع لفظية أو حكمة مفردة، أو إشارة ملغزة!
وهناك لفتات ليس من طبيعة البشر أن يلتفتوها، وقد وقفنا عند بعضها في هذه الظلال أحيانا. فلم يسبق لبشر ولم يلحق كذلك أن أراد التعبير عن العلم الشامل الدقيق اللطيف، فاتجه إلى مثل هذه الصورة التي جاءت في القرآن:
{وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}.. أو إلى مثل هذه الصورة: {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير} أو إلى مثل هذه الصورة: {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير}
كذلك لم يسبق لبشر ولم يلحق أن التفت مثل هذه اللفتة إلى القدرة التي تمسك هذا الكون وتدبره: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده}. أو هذه اللفتة إلى انبثاقات الحياة في الكون من يد القدرة المبدعة وما يحيط بالحياة من موافقات كونية مدبرة مقدرة:
{إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون}..
وهذه اللفتات الكونية كثيرة في القرآن كثرة ملحوظة، ولا نظير لها فيما تتجه إليه خواطر البشر للتعبير عن مثل المعاني التي يعبر عنها القرآن.. وهذه وحدها كافية لمعرفة مصدر هذا الكتاب.. بغض النظر عن كل دلالة أخرى من صلب الكتاب أو من الملابسات المصاحبة له على السواء.
فالشبهة واهية سطحية. حتى حين كان القرآن لم يكتمل، ولم تتنزل منه إلا سور وآيات عليها ذلك الطابع الإلهي الخاص، وفيها ذلك القبس الموحي بمصدرها الفريد.
وكبراء قريش كانوا يراجعون أنفسهم، ويردون على هذه الشبهة بين الحين والحين. ولكن الغرض يعمي ويصم. {وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم}. كما يقول القرآن الكريم!
وقد حكت كتب السيرة مواقف متعددة لزعماء قريش، وهم يراجعون هذه الشبهة وينفونها فيما بينهم.
من ذلك ما رواه ابن إسحاق عن الوليد بن المغيرة، وعن النضر بن الحارث، وعن عتبة بن ربيعة وقد جاء في روايته عن الأول:
ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش. وكان ذا سن فيهم؛ وقد حضر الموسم. فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا؛ فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا، فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأيا نقل به. قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول: كاهن. قال: لا والله، ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون. قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر؛ لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم.. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس- حين قدموا الموسم- لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره...
وحكى عن الثاني النضر بن الحارث قال:
فقال يا معشر قريش. إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد. قد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر! لا والله، ما هو بساحر. لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم. وقلتم كاهن! لا والله ما هو بكاهن. قد رأينا الكهنة وتخالجهم، وسمعنا سجعهم. وقلتم: شاعر! لا والله ما هو بشاعر. قد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه. وقلتم: مجنون! لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه. يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم....
والمطابقة تكاد تكون تامة- بين قوله وقول عتبة. وقد يكون هو حادثا واحدا نسب مرة إلى هذا ومرة إلى ذاك. ولكن لا نستبعد كذلك أن يتطابق قولان لرجلين من كبار قريش في موقفين متشابهين من مواقف حيرتهم تجاه هذا القرآن!
وأما موقف عتبة فقد سبقت حكايته في استعراضنا لسورة القلم في هذا الجزء.. وهو قريب من موقف الوليد والنضر تجاه محمد وتجاه القول الذي جاء به..
فما كان قولهم: ساحر أو كاهن، إلا حيلة ماكرة أحيانا وشبهة مفضوحة أحيانا. والأمر أوضح من أن يلتبس عند أول تدبر وأول تفكير. وهو من ثم لا يحتاج إلى قسم بما يعلمون وما لا يعلمون: إنه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر. ولا بقول كاهن.. إنما هو تنزيل من رب العالمين.
وتقرير أنه قول رسول كريم لا يعني أنه من إنشائه، ولكن المراد هنا أنه قول من نوع آخر. لا يقوله شاعر، ولا يقوله كاهن، إنما يقوله رسول، يرسل به من عند الله، فيحمله من هناك، من ذلك المصدر الذي أرسله.
من الاية 41 الى الاية 50
{وما هُو بِقول شاعِرٍ قلِيلا ما تُؤْمِنُون (41) ولا بِقول كاهِنٍ قلِيلا ما تذكّرُون (42) تنزِيلٌ مِّن رّبِّ الْعالمِين (43) ولوْ تقول عليْنا بعْض الْأقاوِيلِ (44) لأخذْنا مِنْهُ بِالْيمِينِ (45) ثُمّ لقطعْنا مِنْهُ الْوتِين (46) فما مِنكُم مِّنْ أحدٍ عنْهُ حاجِزِين (47) وإِنّهُ لتذْكِرةٌ لِّلْمُتّقِين (48) وإِنّا لنعْلمُ أنّ مِنكُم مُّكذِّبِين (49) وإِنّهُ لحسْرةٌ على الْكافِرِين (50)}
والذي يعين هذا المعنى هو كلمة رسول. أي مرسل به من عند ربه، وليس شاعرا ولا كاهنا يقوله من عند نفسه. أو بمساعدة رئي أو شيطان.. إنما هو رسول يقول ما يحمله عمن أرسله. ويقرر هذا تقريرا حاسما ما جاء بعده: {تنزيل من رب العالمين}..
والتعقيب: {قليلا ما تؤمنون}.. {قليلا ما تذكرون}.. مدلولة نفي الإيمان، ونفي التذكر. وفق تعبيرات اللغة المألوفة. وفي الحديث في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنه كان يقل اللغو). أي لا يلغو أصلا.. فقد نفى عنهم أصل الإيمان وأصل التذكر. وإلا فما يقول مؤمن عن الرسول: إنه شاعر، ولا يقول متذكر متدبر: إنه كاهن. إنما هما الكفر والغفلة ينضحان بهذا القول النكير!
الدرس السادس: 44- 47 تهديد من كذب على الله بالعذاب:
وفي النهاية يجيء ذلك التهديد الرعيب، لمن يفتري على الله في شأن العقيدة وهي الجد الذي لا هوادة فيه. يجيء لتقرير الإحتمال الواحد الذي لا احتمال غيره، وهو صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأمانته فيما أبلغه إليهم أو يبلغه. بشهادة أن الله لم يأخذه أخذا شديدا. كما هو الشأن لو انحرف أقل انحراف عن أمانة التبليغ:
{ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين}..
ومفاد هذا القول من الناحية التقريرية أن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق فيما أبلغهم. وأنه لو تقول بعض الأقاويل التي لم يوح بها إليه، لأخذه الله فقتله على هذا النحو الذي وصفته الآيات. ولما كان هذا لم يقع فهو لابد صادق.
هذه هي القضية من الناحية التقريرية.. ولكن المشهد المتحرك الذي ورد فيه هذا التقرير شيء آخر، يلقي ظلالا بعيدة وراء المعنى التقريري. ظلالا فيها رهبة وفيها هول. كما أن فيها حركة وفيها حياة. ووراءها إيحاءات وإيماءات وإيقاعات!
فيها حركة الأخذ باليمين وقطع الوتين. وهي حركة عنيفة هائلة مروعة حية في الوقت ذاته. ووراءها الإيحاء بقدرة الله العظيمة وعجز المخلوق البشري أمامها وضعفه.. البشر أجمعين.. كما أن وراءها الإيماء إلى جدية هذا الأمر التي لا تحتمل تسامحا ولا مجاملة لأحد كائنا من كان. ولو كان هو محمد الكريم عند الله الأثير الحبيب. ووراءها بعد هذا كله إيقاع الرهبة والهول والخشوع!
الدرس السابع: 48- 52 حقائق يقينية حول القرآن:
وأخيرا تجيء الخاتمة التقريرية بحقيقة هذا الأمر وطبيعته القوية:
{وإنه لتذكرة للمتقين وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين}.
فهذا القرآن يذكر القلوب التقية فتذكر. إن الحقيقة التي جاء بها كامنة فيها. فهو يثيرها فيها ويذكرها بها فتتذكرها. فأما الذين لا يتقون فقلوبهم مطموسة غافلة لا تتفتح ولا تتذكر، ولا تفيد من هذا الكتاب شيئا. وإن المتقين ليجدون فيه من الحياة والنور والمعرفة والتذكير ما لا يجده الغافلون.
{وإنا لنعلم أن منكم مكذبين}.. ولكن هذا لا يؤثر في حقيقة هذا الأمر، ولا يغير من هذه الحقيقة. فأمركم أهون من أن يؤثر في حقائق الأمور.
{وإنه لحسرة على الكافرين}.. بما يرفع من شأن المؤمنين، ويحط من قدر المكذبين وبما ينتهي إليه من إقرار الحق وإزهاق الباطل الذي يستمسك به الكافرون. ثم إنه حجة عليهم عند الله في اليوم الآخر، يعذبون.
من الآية 51 الى آخر السورة:
{وإِنّهُ لحقُّ الْيقِينِ (51) فسبِّحْ بِاسْمِ ربِّك الْعظِيمِ (52)}
به، ويتحسرون لما يصيبهم بسببه. فهو حسرة على الكافرين في الدنيا والآخرة.
{وإنه لحق اليقين}.. مع تكذيب المكذبين. حق اليقين. فليس مجرد اليقين، ولكنه الحق في هذا اليقين. وهو تعبير خاص يضاعف المعنى ويضاعف التوكيد. وإن هذا القرآن لعميق في الحق، عميق في اليقين. وإنه ليكشف عن الحق الخالص في كل آية ما يشي بأن مصدره هو الحق الأول الأصيل..
فهذه هي طبيعة هذا الأمر وحقيقته المستيقنة. لا هو قول شاعر. ولا هو قول كاهن. ولا هو تقول على الله. إنما هو التنزيل من رب العالمين. وهو التذكرة للمتقين. وهو حق اليقين.
هنا يجيء التلقين العلوي للرسول الكريم، في أنسب وقت وأنسب حالة لهذا التلقين:
{فسبح باسم ربك العظيم}..
والتسبيح بما فيه من تنزيه وتمجيد. وبما فيه من اعتراف وتحقيق. وبما فيه من عبودية وخشوع... هو الشعور الذي يخالج القلب، بعد هذا التقرير الأخير، وبعد ذلك الاستعراض الطويل، لقدرة الله العظيم، وعظمة الرب الكريم.. اهـ.